سخريّات ليليّة ( 3 ): رُدَّ القميص عافاك اللّه!

سخريّات ليليّة ( 3 ): رُدَّ القميص عافاك اللّه!


حدّثنا شيخنا أبو عثمان الجاحظ عن أحد لطاف البخلاء واسمه زبيدة قال:

سكر زبيدة ليلة فكسا صديقا له قميصا. فلمّا صار القميص على النديم خاف البدَواتِ وعلم أنّ ذلك من هفوات السكر، فمضى من ساعته إلى منزله فجعله بُرنكانا لامرأته. فلمّا أصبح سأل عن القميص وتفقّده، فقيل له: إنّك قد كسوته فلانا. فبعث إليه، ثمّ أقبل عليه، فقال: أما علمتَ أنّ هبة السكران وشراءه وبيعه وصدقته وطلاقه لا يجوز؟ وبعد، فإنّي أكره ألاّ يكون لي حمدٌ، وأنْ يوجّه الناس هذا منّي على السكر، فرُدَّه عليّ حتّى أهَبَه لك صاحيا عن طيب نفس، فإنّي أكره أنْ يذهب شيء من مالي باطلاً. فلمّا رآه صمّمَ أقبل عليه فقال: يا هناه ( منادى نكرة ). إنّ الناس يمزحون ويلعبون ولا يؤاخذون بشيء من ذلك، فرُدَّ القميص عافاك اللّه. قال له الرجل: إنّي واللّه قد خفت هذا بعينه، فلم أضع جنبي إلى الأرض حتّى جيّبته لامرأتي وقد زدتُ في الكمّيْن وحذفتُ المقاديم. فإنْ أردتَ بعد هذا كلّه أنْ تأخذه فخذه. فقال: نعم آخذه، لأنّه يصلح لامرأتي كما يصلح لامرأتك. قال: إنّه عند الصبّاغ. قال: هاته! قال: ليس أنا أسلمته إليه. فلمّا علم أنّه قد وقع قال: بأبي وأمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يقول: جُمِع الشر كلّه في بيت، وأُغْلق عليه فكان مفتاحه السكر!

 

تذكّرت نادرة زبيدة مع نديمه الماكر ليلةَ فاجأني أحدهم ليطالبني بالتصديق على إمضاء مساندة يدّعي أنّي وافقت عليه مبدئيّا في ليلة من اللّيالي! وأُفحمت حقّا وسُقِط في يدي حين أخرج من محفظته الجلديّة السوداء حزمة من الأوراق والملفّات المشوّشة واستلّ من بينها في حركة رشيقة ورقة عليها قائمة اسميّة طويلة في لجنة المساندة. وسألت صديقي خجلاً عن مضمون المساندة، فقال متبرّما: لمَ تسأل كثيرا. ألم نقل – ليلتها ! – إنّها مساندة للكفاح النقابيّ، فقلت حائرا: كفاح من ضدّ من؟ وهل لهذا الكفاح صلة بالمنظّمة النقابية الأمّ؟

وما أنْ نطق لساني باسم المنظّمة حتّى امتقع وجه صديقي وتبدّل لونه ومال إلى الخضرة، وصاح مؤنّبا: إنْ كنتَ ندمتَ سأسحب إمضاءك. وهو للعلم لا يؤثّر، فقائمة المساندة الدوليّة والوطنيّة طويلة طويلة. ولمّا أعيتني السبل في إقناعه بأنّ الإمضاء على عريضة مساندة يقتضي وجود نصّ مكتوب يكون بمثابة العقد القرائيّ والأدبيّ بين الممضي وموضوع المساندة. وأعيتني الحيلة في إقناعه بأنّ أُطُرَ المساندة لمثل هذه العرائض ليست، في مطلق الأحوال، في مثل هذه الأماكن وفي مثل هذه الأوقات! وأنّ استحصال مساندة أو إمضاء يكون بلا تغرير ولا تضليل ولا تقويل ولا تلبيس ولا تحويل للكلام عن وجوهه..ساعتها سحب صديقي اللّيليّ قلمّا أحمر من جيب سترته يبدو أنّه يحتفظ به للّحظات المناسبة، وبجرّة قلم واحدة شطبَ على اسميّ وقذف بي خارج لجنة المساندة. غير أنّي وعلى الضوء الخافت المنبعث من ركن المقهى تهجّيت الاسم: فلان الفلانيّ. وقرأت أمامه رقم هاتفي المحمول. أمّا الصفة فكانت: شيوعي ثوريّ!

 

غادرت الطاولة لهول المفاجأة ذلك أنّي لم أكن – لسوء الحظّ أو لحسنه – شيوعيّا، فكيف بالشيوعيّ الثوريّ؟ وأنذرت المناضل ذا النظّارتيْن السميكتيْن بأنْ لا يعود إلى وضع اسمي على قائمة شبحيّة لمساندة الشيطان، ودعوته أنْ لا يخرج هذه العرائض في حلقات ما بعد منتصف اللّيل احتراما لعقولٍ دفع الناس من أموالهم ليريحوها بعض الوقت أو على الأقلّ تعفّفا عن مناصرة المضاحيك وشُرّاب النبيذ!

على مدارج المقهى ردّدت، دون أن أشعر، مقالة زبيْدةَ: بأبي وأمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يقول: جُمع الشرّ كلّه في بيت وأغلق عليه فكان مفتاحه السُّكْر!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق